06-مايو-2024
حكومة محمد مصطفى

لم يُعد خافيًا على أحد عمق الأزمة المالية التي تضرب السلطة الفلسطينية، وباتت تهدد بغرق السفينة بما تحمله من ركاب.

هذه الأزمة لم تكن وليدة أشهر، بل هي مركّبة ومتراكمة منذ سنوات، وتعود باختصار إلى عدة أسباب: أولاً، تراجع مساعدات المانحين بمعدل مليار دولار سنويًا إلى ما دون 200 مليون دولار سنويًا. وثانيًا، سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على أموال الضرائب الفلسطينية وفرض اقتطاعات جائرة لأسباب سياسية وصلت إلى أكثر من خمسة مليارات شيقل تراكميًا، وأصبحت تشكل منذ بدء العدوان على قطاع غزة نحو 30% من مجمل إيرادات ضريبة المقاصة. وثالثًا، زيادة النفقات على مدار عدة سنوات في وقت كانت الإيرادات تشهد تراجعًا ملحوظًا عمومًا رغم النمو المسجل في الإيرادات الضريبية.

كل هذه الأسباب مجتمعة قادت إلى فجوة تمويلية سنويًا بين نصف مليار إلى مليار شيقل، ما راكم الدين العام إلى أكثر من 32 مليار شيقل

كل هذه الأسباب مجتمعة قادت إلى فجوة تمويلية سنويًا بين نصف مليار إلى مليار شيقل، ما راكم الدين العام إلى أكثر من 32 مليار شيقل، ما بين ديون لصالح الموظفين وأخرى لصالح البنوك المحلية والخارجية، وثالثة لصالح القطاع الخاص، ورابعة لصندوق هيئة التقاعد والمعاشات.

منذ تقريبًا ثلاث سنوات عجزت السلطة الفلسطينية عن صرف رواتب لموظفيها البالغ عددهم نحو 140 ألف موظف مدني وعسكري، وأخذت فاتورة الرواتب وأشباه الرواتب (أجور العاملين والمساهمات الاجتماعية والنفقات التحويلية لصالح هيئة المعاشات والتقاعد) تزيد عامًا بعد آخر، لترتفع من 11.9 مليار شيقل من نهاية العام 2017 وصولًا إلى 12.2 مليار شيقل مع نهاية العام 2023، لتشكل نحو 65% من إجمالي النفقات، ونحو 76% من إجمالي الإيرادات على  أساس نقدي.

وبالإجمالي، ارتفعت النفقات من 15.99 مليار شيقل بعد نهاية 2017 وصولًا إلى 18.86 مليار شيقل بعد نهاية العام 2023، بزيادة تقدر بنحو 18% خلال ست سنوات.

قد يقول قائل بأن هذه الزيادة طبيعية في ظل علاوات سنوية ومستحقة للموظفين، وفي ظل تنامي الخدمات الصحية والتعليمية وما تستوجبه من زيادة في النفقات. هذا صحيح، ولكن نقول في الوقت ذاته إن كل المؤشّرات على الأرض منذ ذلك العام كانت توحي بأن المساعدات الخارجية آخذة في التناقص عامًا تلو الآخر، ولم يكن من الحكمة بالمطلق بناء موازنات على افتراض ما سيصل من أموال المانحين، هذا من جهة. ومن جهة ثانية صحيح أن الإيرادات الضريبية سواء ضريبة المقاصة أو الإيرادات المحلية كانت تنمو نموًا كبيرًا، لكن السلطة الفلسطينية كانت تضطر للاستدانة من البنوك المحلية لسد الفجوة التمويلية التي تتراوح بين نصف مليار شيقل إلى مليار شيقل سنويًا، ثم أضيف منذ عام 2019 عامل جديد فرضه الاحتلال والمتمثل باقتطاع جزء من أموال المقاصة.

إذًا، منذ عام 2017 كان واضحًا أن المساعدات الخارجية ربما تكون ذهبت بلا رجعة أو على الأقل لم تعد عاملًا يعول عليه في بناء الموازنة. ومنذ عام 2019 كان يتضح ميول حكومة الاحتلال لقرصنة جزء من أموال المقاصة،  فلماذا لم يُؤخذ ذلك في الحسبان؟! 

السلطة الفلسطينية بحصولها على قرض مجمع بقيمة 388 مليون دولار نهاية العام الماضي من البنوك العاملة في فلسطين، تكون قد استخدمت آخر الأوراق المتاحة للاستدانة من القطاع المصرفي، فحجم الدين المحلي وصل إلى نحو 2.6 مليار دولار، ولم يعد هناك متسعًا للاستدانة ولو قرش واحد، دون وجود أفق قريب لتدفق مساعدات خارجية، وحتى لو وصل بعضها فإنها لن تكون كافية لفكفكة الأزمة المستفحلة الحالية، فاستمرار الاحتلال في مزيد من الاقتطاعات لأموال المقاصة، وكذلك تداعيات الحرب وما سببته من ركود في الدورة الاقتصادية أدت إلى تراجع الإيرادات المحلية في الشهور الأربعة الأولى من بدء العدوان بنحو 42% مقارنة مع الشهور الأربعة التي سبقت الحرب، ما يعني بالضرورة أن السلطة الفلسطينية وصلت إلى طريق مسدود، وأن الأزمة لم تعد عميقة فحسب، بل إن وجودها أصبح في خطر محدق، فالسفينة قابلة للغرق و"القبطان" مدعو لأن يُحدث تدخلات حقيقية وعاجلة.

السلطة الفلسطينية وصلت إلى طريق مسدود، والأزمة لم تعد عميقة فحسب، بل إن وجودها أصبح في خطر محدق

ما العمل إذًا؟

نحن الآن أمام مفترق، ولا مناص من عملية جراحية مستعجلة توقف النزيف وتُشعل الضوء الأحمر، وتعيد قليلًا من الأوكسجين للدورة المالية، ما يستدعي ما يلي:

أولًا: لا بدّ من مقاضاة الاحتلال الاسرائيلي بشكل عاجل لدى المحاكم الدولية، ومطالبته باسترداد أموال المقاصة المقتطعة. هذه معركة وجود وليست عملية إجرائية فنية، فجباية أموال الضرائب اتفاقية تجارية لا سياسية لا يصحً أن تظل أداة ابتزاز سياسي بيد الاحتلال.

ثانيًا: إنقاذ السلطة الفلسطينية ماليًا هي مهمة المجتمع الدولي الذي يجد فيها مفتاحًا للحل السياسي، ولذلك لابد على حكومة محمد مصطفى العمل على تجنيد مساعدات خارجية، والاستجابة لبعض شروط المانحين (الفنية والإدارية) فيما يتعلق بضبط المال العام.

ثالثًا: تخفيض النفقات التشغيلية على جناح السرعة، فلا يمكن الاستمرار ببعض المظاهر التي كانت سائدة في سنوات سابقة، والحديث يطول في هذا المجال من بدل سفريات ومهمات وعلاوات ومكافآت وخدمات مدفوعة الأجر..الخ، وكذلك إعادة النظر في وجود عدد من الهيئات والوزارات والدوائر وبعض العقود الاستشارية.

 باختصار وجب إعادة الهيكل الإداري للسلطة الفلسطينية، بكل مكوناتها بما ينجم عنه إعادة تحديد الموازنات التشغيلية لهذه الوزارات والهيئات حسب الاحتياجات المجتمعية لا حسب المقاسات المفصلة لأشخاص بعينهم.

رابعًا: ضبط ما يسمى بـ"صافي الإقراض" الذي يصل قيمته إلى مليار شيقل سنويًا، فهذه خدمات مجالس محلية منتخبة من قبل المواطنين، ويحكمها القانون الفلسطيني، فلا يعقل أن تستمر هذه المجالس في جباية أثمان الخدمات من كهرباء ومياه وغيرها من المواطنين، ولا يتم تحويل هذه الأموال إلى الخزينة العامة، في وقت يقتطع فيه الاحتلال الإسرائيلي هذه الأثمان شهريًا من أموال المقاصة.

خامسًا: ضبط فاتورة التحويلات الطبية، فصحيح أن هذا الملف تم إجراء تحسينات عليه خلال السنوات الأخيرة من خلال تخفيض التحويلات الخارجية، لكن التحويلات التي تجري من القطاع العام إلى مستشفيات خاصة فلسطينية تحتاج إلى إعادة ضبط ورقابة، من خلال تخفيض تحسين الخدمات المقدمة في المستشفيات الحكومية، وبحث اعتماد آلية فيها ضوابط مهنية تستند إلى المكاشفة والرقابة والمحاسبة.

سادسًا: وقف فوري لكل التعيينات سواءً في مناصب عليا أو وفق عقود، إلا فيما يتعلق باحتياجات بشرية ضرورية جدًا في قطاعي الصحة والتعليم وضمن خطط واضحة، واعتماد مبدأ التدوير الوظيفي وفق ما هو متوفر من إمكانيات بشرية ضمن الكادر الوظيفي الحالي.

سابعًا: إصدار قرار بقانون يعالج قصة رواتب الوزراء وأعضاء التشريعي، فهؤلاء كلفوا بمهام نتنتهي مع إعفائهم من مناصبهم، أو إنهاء فترة انتخابهم، وليس منطقيًا أن يتقاضى وزراء الحكومات المتعاقبة رواتب إلى الأبد، فالأجدر أن يعطى هؤلاء بدل إنهاء خدمة عند إنهاء مهامهم أسوة بتوجهات دول شقيقة في هذا المجال.

ثامنًا: لا بد من إعادة تنقيح فاتورة الرواتب، سواءً على صعيد تحديد بعض الرواتب "غير المبررة" كمخصصات لعناصر التنظيمات، أو على صعيد العلاوات المحددة لبعض المهن، أو على صعيد بند المواصلات. صحيح أن الرواتب نفسها تآكلت بفعل التضخم، ولكن لا مجال في الوقت الحالي سوى القيام بإجراءات استثنائية.

تاسعًا: تعمل النظم المحاسبية في وزارة المالية أسوة بنظم محاسبية متعارف عليها بموجب "الصادر"و"الوارد"، بمعنى توجد لك معاملة مالية مستحقة لصالحك على وزارة المالية سواءً كنت فردًا أو شركة. لا علاقة لتلك المعاملة بمستحقات مترتبة عليك لصالح وزارة المالية، وهذا تسبب بمشاكل كبيرة في ظل الأزمة المستعصية يمكن معالجتها جزئيًا  من خلال التقاص الإلكتروني بين "الصادر" والوارد"، فموظفٌ من القطاع العام مثلًا لا يتقاضى راتبًا كاملًا لديه مستحقات متراكمة على وزارة المالية، ولا يستطيع أن يدفع ثمن خدمة حكومية مثل ترخيص مركبة أو دفع ضريبة أملاك، لماذا لا يتم تسديد ثمن هذه الخدمة بما لديه من مستحقات خاصة أنه لم يعد يملك هامشًا ماليًا لدفع ثمن هذه الخدمة؟ وكذلك الأمر بالنسبة لصاحب شركة لديه أموال متراكمة لصالح الحكومة لماذا لا يتم خصم تلك المستحقات مما يتوجب عليه دفعه من ضرائب أو خدمات حكومية؟

عاشرًا: توحيد كافة الإيرادات المحلية في الخزينة العامة للسلطة، فلا بدّ من التوقف مطولًا أمام ايرادات واستثمارات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية وضبطها ضمن إجراءات الرقابة على المال العام.

الجميع يجب أن يعلم أننا في محنة، ولم يعد هناك متسع ولو دقيقة للنوم في "العسل"

إن التدخل المطلوب لا يحتاج إلى ورش عمل، ولا مؤتمرات ولا خطة إصلاح طويلة المدى، ولا خطابات جوفاء، فكل ما هو مطلوب لجنة مهنية من ذوي الكفاءة والاختصاص مشكلة من الحكومة ومؤسسات مجتمعية ورقابية تشخص ما هو ظاهر للعيان، وتبدأ بصياغة توصياتها بأسرع وقت، وما على الحكومة إلا الأخذ بها وبدء تنفيذها حتى لو استدعى ذلك إصدار قرار بقانون من الرئيس، فالجميع يجب أن يعلم أننا في محنة، ولم يعد هناك متسع ولو دقيقة للنوم في "العسل".